الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)} يقول الحق جل جلاله: {إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله}، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبراً للمبتدأ، مع تضمنه له؛ تقريراً لِمَا قبله، وتمهيداً لما بعده، وإيذاناً بأن ما بعده حقيق بأن يُجْعَلَ قريناً للإيمان بهما ومنتظماً في سلكه. {وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ}: عَطْفٌ على (آمنوا)، دَاخِلٌ في حيز الصلة، أي: إنما الكاملون في الإيمان: الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم، وأطاعوه في جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق، كما إذا كانوا معه- عليه الصلاة والسلام- على أمر مُهم يجب الاجتماع في شأنه؛ كالجمعة والأعياد، والجهاد، وتدريب الحروب، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع، {لم يذهبوا حتى يستأذنوه}، ويأذن لهم، ولو كان الأمر يقوم بدونهم، ليتميز المخلص من المنافق، فإن دَيْدنه التسلل للفرار، ولتعظيم الجرم؛ لما في الذهاب بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الخيانة. وَلَمَّا أراد الحقُّ تعالى أَنْ يُرِيَهُمْ عِظَمَ الجنايةِ في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع، جعل ترك ذهابهم والصبر معه، حتى يأذن لهم: ثالث الإيمان، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له، والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة ب «إنما، ثم عقبة بما يزيده توكيداً وتشديداً؛ حيث أعاده عاى أسلوب آخر فقال: {إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله}، فقضَى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفي» أولئك «: من تفخيم المستأذنين، ما لا يخفى، {فإذا استأذنوك} في الانصراف {لبعض شأنهم} أي: أمرهم المهم وخطْبهم الملم. {فَأَذَنْ لِمَنِ شئْتَ منهم} لما علمت في ذلك من مصلحة وحكمة. وهذا بيان لما هو وظيفة صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين، وأن الإذن منه- عليه الصلاة والسلام- ليس بأمر محتوم، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام، وفيه مِنْ رَفْع شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: بعدما تحقق أن الكاملين في الإيمان هو المستأذِنُون. {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فَأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم الله}، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. {إن الله غفور رحيم}؛ مبالغ في غفران فَرَطَاتِ العِبَاد، وفيه إفاضة آثار الرحمة عليهم. وما ذكره الحق تعالى في شأن الصحابة مع الرسول- عليه الصلاة والسلام- في شأن الاستئذان ينبغي أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في العلم والدين، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت في الخندق، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان، فنزلت. وبقي حكمها عاماً إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم. الإشارة: من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه، أما أهل البدايات فيستأذنون في الجليل والحقير، كقضية الفقير الذي وجد بَعْضَ البَاقِلاَّءِ- أي: الفول- في الطريق، فأتى بها إلى الشيخ، فقال: يا سيدي ما نفعل به؟ فقال: اتركه، حتى تفطر عليه، فقال بعض الحاضرين: يستأذنك في الباقلاء؟ فقال: لو خالفني في أمر؛ لم يفلح أبداً. وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق، واستشرفوا على عين التحقيق، وحصلوا على مقام الفهم عن الله، فلا يستأذنون إلا في الأمر المهم؛ كالتزوج، والحج، ونحوهما. وَصَبْرُهُ حتى يأمره الشيخ بذلك أولى، فالمريد بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع الله بعد الوصول. فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله، لكن لما كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم في غاية الصعوبة على النفس، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية، وجذبته جواذب العناية، أعني الدخول تحت الشيخ وتحكيمَه على نفسه، حتى لا يتحرك إلا بإذنه، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان، فإذا فعل المريد شيئاً من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغي للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له، لقوله تعالى: {واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم}، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه، ونائب عنه في رتبة التربية. والله تعالى أعلم.
{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)} يقول الحق جل جلاله: {لا تجعلوا دُعاءَ الرسولِ بينكم كدُعَاءِ بعضِكم بعضاً} أي: إذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم لأمر جامع، فدعَاكم، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً، ورجوعكم عن المجمع بغر إذن الراعي؛ لأن أمره- عليه الصلاة والسلام- وشأنه ليس كشأنكم: أو: لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد، كدعاء بعضكم على بعضاً، فإنَّ غضبه عليه ليس كغضبكم؛ لأن غضبه غضب الله، ودعاءه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهة التحذير عن ترك الاستئذان، فإنَّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه- عليه الصلاة والسلام- ودعائه عليه. أو: لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضاً؛ كندائه باسمه، ورفع الصوت عليه، وندائه من وراء الحُجرات، ولكن بلَقَبه المعظم؛ يا رسول الله، يا نبي الله، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت. قال القشيري: أي: عَظِّموه في الخطاب، واحفظوا حرمته وخدمته في الأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. ه. فالإضافة، على الأوليْن: للفاعل، وعلى الثالث؛ للمفعول، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده في قوله: {قد يعلم الله الذين يتسللون} أي: يخرجون قليلاً قليلاً على خِفْيَةٍ منكم، {لِوَاذاً} أي: ملاوذين، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن؛ إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر، أي: يلوذون لواذاً. واللواذ: الملاوذة، وهي التعلق بالغير، وهو أن يلوذ هذا بهذا في أمر، أي: يتسللون عن الجماعة؛ خفية، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. ثم هددهم على المخالفة بقوله: {فليحذرِ الذين يُخالفون عن أمره} أي: الذين يصدون عن أمره، يقال: خالفه إلى الأمر: إذا ذهب إلى دونه، ومنه: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، وخالفه عن الأمر: إذا صد عنه. والضمير: إما لله سبحانه، أو للرسول عليه الصلاة والسلام-، وهو أنسب؛ لأنه المقصود بالذكر. والمعنى: فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنَّته، {أن تُصيبَهم فتنةٌ}؛ محنة في الدنيا؛ كقتل أو زلازل وأهوال، أو تسليط جائر، أو عدو، أو قسوة قلب. أو كثرة دنيا؛ استدراجاً وفتنة. قال القشيري: سعادة الدارين في متابعة السُّنَّة، وشقاوتهما في مخالفتها، ومما يصيب من خالفها: سقوط حشمة الدين عن القلب. ه. {أو يُصيبهم عذابٌ أليم} في الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب، وكلمة «أو»: لمنع الخلو، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحاً؛ للاعتناء بالتهديد والتحذير. {أَلاَ إنَّ لله ما في السمواتِ والأرضِ} من الموجودات، خلقاً وملكاً وتصرفاً، وإيجاداً وإعداماً، بَدْءاً وإعادةً، و«ألاَ»: تنبيه على أن يخالفوا من له ما في السموات والأرض. {قد يعلمُ ما أنتم عليه} أيها المُكَلَّفُون، من الأحوال والأوضاع، التي من جملتها الموافقةُ والمخالفةُ، والإخلاصُ والنفاقُ. وأدخل «قد»؛ ليؤكد علمه بما هم عليه، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. والمعنى: أن جميع ما استقر في السموات تحت ملكه وسلطانه وإحاطة علمه، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين، وإن اجتهدوا في سترها؟! {ويوم يُرجعون إليه} أي: ويعلم يوم يُردون إلى جزائه، وهو يوم القيامة. والخطاب والغيبة في قوله: {قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه} يجوز أن يكون للمنافقين، على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون {ما أنتم عليه} عاماً، و{يُرجعون} للمنافقين. {فينبئهم} حينئذٍ {بما عملوا} من الأعمال السيئة، التي من جملتها: مخالفة الأمر، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء. {والله بكل شيءٍ عليم}، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قرأ سورة النور على المنبر في الموسم، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. ه. وأما ما ورد في فضل السور فموضوع، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وبالله التوفيق. الإشارة: شيوخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في القيام بالتربية النبوية، فيجب امتثال كل ما أمروا به، واجتناب كل ما نهوا عنه، فُهِمَ معناه أو لم يُفهم. فإذا كانوا مجموعين في أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه، ولا يكفي إِذْنُ بَعْضِ الفقراء، إلا إنْ وَجّهَهُ الشيخ لذلك، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضاً في التساهل في مخالفة أمره، أو امتثال أمره. قد يعلم الله الذين يتسللون، فيفرون عنه؛ لِواذاً، فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة؛ كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه، أو يصيبهم عذاب أليم، وهو السلب بعد العطاء، والعياذ بالله من الزلل ومواقع الضلال. نسأل الله تعالى أن يثبت قدمنا على منهاج الحق، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم، ورسوخ القدم في معرفة الرحمن الرحيم. آمين. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، النبي الكريم، وعلى آله وصحبه، وسلم.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} يقول الحق جل جلاله: {تبارك} أي: تكاثر خيره وتزايد، أو: دام واتصل. وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله، والمستعمل منها الماضي فقط، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات، التي من جملتها: تنزيل القرآن، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية، أي: تعاظم {الذي نَزَّلَ الفرقانَ} أي: القرآن، مصدر فرق بين اثنين، إذا فصل بينهما. سمي به القرآن؛ لفصله بين الحق والباطل، والحلال والحرام، أو: لأنه لم ينزل جملة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً، ألا ترى إلى قوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} [الإسراء: 106]. أنزله {على عبده} محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده- عليه الصلاة والسلام- بذلك العنوان؛ لتشريفه، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسل لا يكون إلا عبداً للمُرسل؛ رداً على النصارى. أنزله {ليكون} العبد المنزل عليه، أو الفرقان {للعالمين} من الثقلين، زاد بعضهم: والملائكة أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه، حيث لم يقف مع مقام ولا حال، ويقتبسوا من أنواره، وهو حكمة الإسرار، وقيل: حتى إلى الحيوانات والجمادات، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به، وبتعظيمه- عليه الصلاة والسلام- وهذا كله داخل في العالمين؛ لأن ما سوى الله كله عالم؛ كما تقدم في الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه- عليه الصلاة والسلام-. {نذيراً} أي: مخوِّفاً، وعدم التعرض للتبشير؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة، ولا بشارة لهم. {الذي له مُلكُ السموات والأرضِ} أي: له، خاصةً، دون غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. فالقهرية لازمة لهما، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلي، إيجاداً وإعداماً، وإحياءً وإماتةً، وأمراً ونهياً، {ولم يتخذ ولداً} كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح- عليهما السلام-، {ولم يكن له شريك في المُلْك} كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، والرد في نحورهم. {وخَلَقَ كلَّ شيء} أي: أحدث كل شيء وحده، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي: أظهر كل شيء {فقدَّره} أي: فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به، {تقديراً} بديعاً، لا يقادر قدره، ولا يُبلغ كنهه؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، والدلائل المختلفة، على وجود الصانع. أو: فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّاً ما كان، فالجملة تعليل لما قبلها، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه، كيف يتوهم أنه ولد الله سبحانه، أو شريكٌ له في ملكه. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. الإشارة: عبّر بالعبودية في التنزيل والإسراء؛ إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حفظ من تنزيل الفرقان على قلبه، حتى يفرق بين الحق والباطل، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت، حتى يعاين عجائب أسرار ربه. وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم، ومن العروج بروحهم، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم، حتى يكون مع مراده، لا مع مرادهم، لا يريدون إلا ما أراد، ولا يشتهون إلا ما يقضي، قد تحرروا من رقِّ الأشياء، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء، يُعرج بأرواحهم، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به من الحق والباطل، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه؛ قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وبالله التوفيق.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)} يقول الحق جل جلاله: {واتخذوا} أي: الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين، اتخذوا لأنفسهم {من دونه} تعالى {آلهة}؛ أصناماً، يعبدونها ويستعينون بها، وهم {لا يَخْلُقُون شيئاً} أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، {وهم يخْلَقُون} كسائر المخلوقات. والمعنى أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق، والملك والتقدير، عباداً عجزة، لا يقدرون على خلق شيء، وهم مخلوقون ومصورون. {ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً} أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة، وهؤلاء لا يقدرون على شيء البتة، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم، أو ضرر من لم يعبدهم؟! {ولا يملكون موتاً} أي: إماتة {ولا حياةً} أي: إحياء {ولا نشوراً}؛ بعثاً بعد الموت، أي: لا يقدرون على إماتة حي، ولا نفخ الروح في ميت، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك. وفي إيذان بغاية جهلهم، وسخافة عقولهم، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم. الإشارة: كل من ركن إلى غير الله، أو مال بمحبته إلى شيء سواه، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه، فقد خاب مطلبه ومسعاه؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ وفي الحِكَمِ: «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً؟». قال بعض الحكماء: من اعتمد على غير الله فهو في غرور؛ لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. ه. وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود؛ أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دُون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، وإلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته، ولا أبالي في وادٍ هلك. ه. وبالله التوفيق.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)} يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين كفروا} أي: تمردوا في الكفر والطغيان. قيل: هم النضر بن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضاهاهم. وقيل: النضر فقط، والجمع؛ لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا: {إنْ هذا}؛ ما هذا القرآن {إلا إفكٌ}؛ كذب مصروف عن وجهه {افتراه}؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه، {وأعانة عليه} أي: على اختلاقه {قومٌ آخرون}، يعنون: اليهود، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل: هم عدَّاس، ويسار، وأبو فكيهة الرومي، كان لهم علم التوراة والإنجيل. ويحتمل: وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {فقد جاؤوا}، وأتوا {ظُلماً} أو: بظلم، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل، فتتعدى تعديته، أو بحرف الجر، والتنوين للتفخيم، أي: جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً؛ حيث جعلوا الحق البيِّن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إفكاً مفترى من قول البشر، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية، والأمور الغيبية، بحيث لا يناله عقول البشر، ولا تفي بفهمه الفهوم، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. {و} أتوا أيضاً {زُوراً} أي: كذباً كثيراً، لا يُبْلَغُ غايتُه؛ حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه. {وقالوا أساطيرُ الأولين} أي: هو أحاديث المتقدمين، وما سطروه من خرافاتهم؛ كرُستم وغيره. جمع أسطار، أو أسطورة، {اكتتبها}؛ كتبها لنفسه، أو: استكتبتها فكُتبت له، {فهي تُملى عليه} أي: تُلقى عليه من كتابه {بكرةً}: أول النهار {وأصيلاً}؛ آخره، فيحفظ ما يتلى ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة، قاتلهم الله، أنى يؤفكون؟. {قل} يا محمد: {أنزله الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ} أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني: أن القرآن، لما اشتمل على علم الغيوب، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب، أي: ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق، بإعانة قوم، وكتابة آخرين؛ من الاحاديث والأساطير المتقدمة، بل هو أمر سماوي، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام، على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفهام، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته، وأخبركم بأمور مغيبات، وأسرار مكنونات، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير، ثم جعلتموه إفكاً مفترى، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً، لولا حِلمه ورحمته، {إنه كان غفوراً رحيماً}؛ فأمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم، أي: كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله، مع كمال اقتداره. ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه، فقال: {وقالوا مَالِ هذا الرسولِ} وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم، كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول؛ يأكل الطعام كما تأكلون، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون، أي: إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! {لولا أُنزل إليه ملَكَ} على صورته {فيكون معه نذيراً}، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه، ويكون ردءاً له في الإنذار، ويُعبر عنه، ويفسر ما يقوله للعامة. {أو يُلْقَى إليه كنزٌ} من السماء، يستغني به عن طلب المعاش معنا، {أو تكونُ له جنةٌ}؛ بستان {يأكل منها} كالأغنياء المياسير. والحاصل: أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة، مستغنياً عن الطعام والشراب، وتعجبوا من كون الرسول بشراً، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز، يستظهر به على نوائبه، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له بستان يأكل منه، كالمياسير، أو نأكل نحن منه، على قراءة حمزة والكسائي. قال تعالى: {وقال الظالمون} وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي: قالوا للمؤمنين: {إن تتبعون}؛ ما تتبعون {إلا رجلاً مسحوراً}؛ قد سُحر فغلب على عقله، {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول، الجارية؛ لغرابتها، مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة، البعيدة عن الوقوع؟! {فضلّوا} عن طريق الجادة {فلا يستطيعون سبيلاً}؛ فلا يجدون طريقاً إليه، أو: فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه، أو: فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً، فلا يجدون طريقاً موصلاً إليه، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق. الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا: ليست من فيضه، إنما نقلها عن غيره، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون، قل: أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض، أنه كان غفوراً رحيماً، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته، فوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية، كما تقدم مراراً. والله تعالى أعلم.
{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)} قلت: (جنات): بدل من خيراً، و(يجعل)، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط، ومن رفعه فعلى الاستئناف، أي: وهو يجعل لك قصوراً، ويجوز عطفه على الجواب؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم، كما هو مقرر في محله. يقول الحق جل جلاله: {تبارك} أي: تكاثر وتزايد خيره {الذي إن شاء جَعَلَ لك} في الدنيا {خيراً} لك {من ذلك} الذي اقترحوه؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة، {جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ}، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار، كما اقترحوا، {ويجعل لك قصوراً}؛ وغرفاً في الدنيا، كقصور الآخرة، لكن لم يشأ ذلك؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان. وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية، فإن بعض الأنبياء- عليهم السلام- قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً، لكنه نادر. ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى، فقال: {بل كذَّبوا بالساعة} أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال: {وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً} أي: وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار، أي: الاشتعال. ووضع الموصول موضع ضمير «هم»، أو لكل من كذب بها كائناً من كان، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً. ووضع الساعة موضع ضميرها؛ للمبالغة في التشنيع. {إذا رَأَتْهُم} أي: النار، أي: قابلتهم {من مكان بعيد}؛ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر: «لا تترآءى نَاراهُما»، أي: لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. {سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً} أي: سمعوا صوت غليانها. شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير، وهو صوت من جوفه. ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل: إن ذلك من زبانيتها، نُسب إليها، وهو بعيد. {وإذا أُلْقُوا منها}؛ من النار {مكاناً ضَيِّقاً} أي: في مكان ضيق؛ لأن الكرب يعظم مع الضيق، كما أن الروح يعظم مع السعة، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهما-: (تضيق جهنم عليهم، كما يضيق الزجُّ على الرمح). وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط» حال كونهم {مُقرّنين} أي: مسلسلين، أي: مقرونين في السلاسل، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. أو: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسة، وفي أرجلهم الأصفاد. فإذا أُلقوا في الضيق، على هذا الوصف، {دَعَوا هنالك} أي: في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة، {ثُبُوراً} أي: هلاكاً، بأن يقولوا: واثبوراه؛ هذا حينُك فتعال، فيتمنون الهلاك ليستريحوا، فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً} أي: لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة، ودعاءً واحداً، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة، فإن ما أنتم عليه من العذاب لغاية شدته وطول مدته، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهوله. وأما ما قيل من أن المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور؛ لشدته وفظاعته، أو: لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها، فلا غاية لها، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ، فيضعُها على حاجبيه، ويسحبُها من خلفه، وذُريتُهُ من بعده، وهو يقول: يا ثُبُوراه، وهم يجاوبونه: يا ثُبُورهم، حتى يَقِفُوا على النار، فيقال لهم: لا تدعوا ثبوراً واحداً...». {قل} لهم يا محمد؛ تقريعاً لهم وتهكماً بهم، وتحسراً على ما فاتهم: {أذلك خيرٌ}، والإشارة إلى السعير، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة، وما فيه من معنى البُعد؛ لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي: قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير، التي أعدت لمن كذب بالساعة، وشأنها كيت وكيت؛ خير {أم جنةُ الخُلد التي وُعِدَ المتقون} أي: وعدها الله المتقين؟ وإنما قال: «أذلك خير»، ولا خير في النار؛ تهكماً بهم. كما تقدم، وإضافة الجنة إلى الخلد؛ للمدح، وقيل: للتميز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين: المتصفون بمطلق التقوى، لا بغايتها. {كانت} تلك الجنة {لهم} في علم الله تعالى، أو في اللوح، {جزاءً} على أعمالهم، {ومصيراً} يصيرون إليه بعد الموت. {لهم فيها ما يشاؤون} من فنون الملاذ والمشتهيات، وأنواع النعيم والخيرات، كقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71]، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم {خالدين} لا يفنون، ولا يفنى ما هم فيه، {كان على ربك وعداً مسؤولاً} أي: موعوداً حقيقياً بأن يُسْأَلَ ويُطلب؛ لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، أو: مسؤولاً لا يسأله الناس في دعائهم، بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمرآن: 194] أو: تسأله الملائكة بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] وما في «على» من معنى الوجوب، لامتناع الخُلْفِ في عده تعالى، فكأنه أوجبه على نفسه؛ تفضيلاً وإحساناً. وفي التعرض لعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم؛ من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود. الإشارة: تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك، وهي جنة المعارف المعجلة، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها، ثم ترحل عنها، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة، أي: من تنكب عن هذا الخير الجسيم، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة؛ من الانهماك في الدنيا، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً، أي: إحراقاً للقلب بالتعب، والحرص، والجزع والهلع، والإقبال على الدنيا، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً؛ غيظاً على طلابها، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها، وإذا ألقوا في أشغالها، وضاق عليهم الزمان في إداركها، دعَوا بالويل والثبور، وذلك عند معاينة أعلام الموت، والرحيل إلى القبور، ولا ينفعهم ذلك. قل: أذلك خير أم جنة الخلد؟ وهي جنة المعارف التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون؛ لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله، كان على ربك وعداً مسؤولاً، أي: مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)} قلت: «اتخذ» قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: {أَمِ اْتَّخَذُوا ءَالِهَةً} [الأنبياء: 8]، وقد يتعدى إلى مفعولين، كقوله: {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] فقرأ الجمهور: (أن نَتَّخِذَ)؛ بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول. فالقراءة الأولى على تعديته لواحد، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول: الضمير في (نتخذ)، والثاني: (من أولياء). و(مِن): للتبعيض، أي: ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك؛ لأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، تقول: ما اتخذت من أحد وليّاً، ولا تقول: ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره، وهو محجوج؛ لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم}، أو: يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة، فيحشرهم {وما يعبدون من دون الله}؛ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام؛ يُنطقها الله، وقيل: عام في الجميع. و(ما): يتناول العقلاء وغيرهم؛ لأنه أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبودهم. {فيقول} الحق جل جلاله للمعبودين، إثر حشر الكل؛ تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً: {أأنتم أَضْلَلْتُمْ عبادِي هؤلاء}، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم، {أم هم ضلُّوا السبيل} أي: عن السبيل بأنفسهم؛ بإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن الرشد. وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل: أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؛ لأن السؤال ليس عن نفس الفعل، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له، فلا بد من ذكره، وإيلائه حرف الاستفهام؛ ليعلم أنه المسؤول عنه. وفائدة سؤالهم، مع علمه تعالى بالمسؤول عنه؛ لأن يجيبوا بما أجابوا به؛ حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فتزيد حسرتهم. {قالوا} في الجواب: {سبحانك}؛ تعجيباً مما قيل، لأنهم إما ملائكة معصومون، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء، أو: قصدوا به تنزيهه عن الأنداد، ثم قالوا: {ما كان ينبغي لنا} أي: ما صح وما استقام لنا {أن نتخذ من دونك} أي: متجاوزين إياك، {من أولياء} نعبدهم؛ لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك، فضلاً أن يتخذونا أولياء، أو: ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك، {ولكن متَّعتهم وآباءهم} بالأموال والأولاد وطول العمر، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها {حتى نَسُوا الذّكر} أي: غفلوا عن ذكرك، وعن الإيمان بك، واتباع شرائعك فجعلوا أسباب الهداية؛ من النعم والعوافي ذريعة إلى الغواية. {وكانوا} في قضائك وعلمك الأزلي، {قوماً بوراً}؛ هالكين، جمع: بائر، كعائذ وعوذ. ثم يقال للكافر بطريق الالتفات: {فقد كَذَّبوكم بما تقولون}، وهو احتجاج من الله تعالى على العبدة؛ مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم؛ على تقدير قول مرتب على الجواب، أي: فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة: فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، {بما تقولون} أي: في قولكم: هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى «في»، وعن قنبل: بالياء، والمعنى: فقد كذبوكم بقولهم: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ}، والباء حينئذٍ كقولك: كتبت بالقلم. {فما يستطيعون}؛ فما يملكون {صَرْفاً}؛ دفعاً للعذاب عنكم {ولا نصراً} أي: فرداً من أفراد النصر. والمعنى: فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء، أي: فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم، ولا نصر أنفسكم. ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال: {ومن يَظْلِمْ منكم}؛ يشرك؛ بدليل قوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] لأن الظلم: وضع الشيء في غير محله، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً. أي: ومن يظلم منكم أيها المكلفون، كدأب هؤلاء الكفرة، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد، واستمروا على الملاججة والفساد، {نُذقْهُ} في الآخرة {عذاباً كبيراً} لا يقادر قدره، وهو الخلود في النار، والعياذ بالله. الإشارة: كل من عشق شيئاً وأحبه من دون الله فهو عابد له، فرداً أو متعدداً، فيُحشر معه يوم القيامة، فيقال لهم: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ فيتبرؤون منهم، ويقولون: بل متعتهم بالدنيا، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار، أو عن الشهود والاستبصار، حتى نسوا ذكر الله وكانوا قوماً بوراً. وقد ورد: (أن الدنيا تُبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء، فتنادي: أين أولادي؟ فيجمعون لها كرهاً، فتقدمهم، فتوردهم النار). وقوله تعالى: {ومن يظلم منكم} أي: يخرج عن حد الاستقامة في العبودية، وشهود عظمة الربوبية، نُذقه عذاباً كبيراً، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام، إلا وقتاً مخصوصاً مع العوام. وبالله التوفيق.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} قلت: كُسرت (إنَّ)؛ لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد (إلا): صفة لمحذوف، أي: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف؛ اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164]، أي: وما منا أحد. وقيل: هي حال، والتقدير: إلا وأنهم ليأكلون. يقول الحق جل جلاله: في الجواب المشركين عن قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق} [الفرقان: 7]؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا} وَصِفَتُهُمْ {إِنهم لَيأْكُلون}؛ بشر يأكلون {الطعامَ}، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، {ويمشون في الاسواق} في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، {وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً} أي: محنة، وهو التعليل لما قبله، أي: إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الاسواق لطلب المعاش؛ ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاءً لبعض؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. ه. فالحكمة في فقر الرسل من المال: تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم؛ حيث تبعوهم بلا حرف. قال النسفي: أو جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً؛ لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا. ه. قال في الحاشية: وقد قيل: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس: مؤمن وكافر، بمعنى: أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم؛ فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا} [المؤمنون: 111]. والحاصل: أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك؛ فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال: {وكان ربك بصيراً}. ه. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، والوليد بن عتبة، والعاص، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً، وغيرهم من الفقراء المسلمين، قالوا: أنسلم؛ فنكون مِثل هؤلاء؟ فنزلت الآية، تخاطب هؤلاء المؤمنين: أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ ه. قال النسفي: أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى خصياً في مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال: بل نصبر، ربّنا. ه. قال القشيري: هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. ه. وقيل: هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131]، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر. ه. {وكان ربك بصيراً}؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به، أو: بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود: هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل؛ لصبره الجميل، مع مزيد تشريف له- عليه الصلاة والسلام-؛ بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. ه. الإشارة: الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا، إلا قدر الحاجة، بعد التوقف والاضطرار، ابتداءً وانتهاء، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة: ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، في وسق من شعير. وعادته تعالى، فيمن سلك هذا المسلك، أن يُديل الغنى في عقبه، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم. وما وَصَف به الحق تعالى رسله؛ من كونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، هو وصف للأولياء أيضاً- رضي الله عنهم-؛ فيمشون في الأسواق؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه: عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا. وكان شيخ أشياخنا- سيدي علي العمراني- يقول لأصحابه: من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. ه. فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة؛ فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون؛ ابتداء، قبل دخول بلاد المعاني، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء، أهل الأحوال؛ مجاهدةً لنفوسهم، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم؛ تشريفاً لأهل الأحوال، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق...}. ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون}: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} قلت: (وقال): عطف على: (وقالوا مال هذا الرسول...) إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عز وجل-. يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا} أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة. والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا؛ لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: {لولا}؛ هلا {أنزل علينا الملائكةُ} رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، {أو نرى ربَّنا} جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك؛ عناداً وعتواً. قال تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم} أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، {وعَتَواْ} أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان {عُتواً كبيراً}؛ بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ...} [الإسراء: 90] إلى قوله: {أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً} [الإسراء: 92]. ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا.. الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى. {يوم يَرَون الملائكةَ} عند الموت أو البعث. و{يوم}: منصوب باذكر، أو بما دل عليه: {لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين}؛ فإنه بمعنى: يُمنعون البشرى، أو: لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة: استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون، دون أن يقال: يوم تنزل؛ إيذاناً، من أول الأمر، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير (يومئذٍ)؛ لتأكيد التهويل، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط؛ فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم. وللمجرمين): تعيين على أنه مظهر، وُضِعَ موضع الضمير؛ تسجيلاً عليهم بالإجرام، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان. {ويقولون حِجْراً محجوراً} على ما ذكر من الفعل المنفي، أي: لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي: يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب: حِجْراً محجوراً، أي: منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً. والمعنى: أنهم يطلبون نزول الملائكة- عليهم السلام- ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع. وقيل: هو قول الملائكة، أي: تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم البشرى، أي: جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و(الحجر): مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ؛ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً: لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على «حِجْراً»؛ فلعله الأوجه له. ثم ذكر مآل أعمالهم، فقال: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} الهباء: شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا: مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم؛ من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقِرى ضيف، وعِتقٍ، ونحو ذلك، بحال من خالف سلطانه، فقدم إلى أشيائه، وقصد إلى ما تحت يديه، فأفسدها، ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً، أي: عمدنا إليها وأبطلناها، أي: أظهرنا بطلانها بالكلية، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور: المفرّق، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع. ثم ذكر ضدهم، فقال: {أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً} أي: مكاناً يستقرون فيه، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات، للتجالس والتحادث، {وأحسن مَقِيلاً}: مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً؛ على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وقال سعيد الصواف: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس. وقرأ هذه الآية. ه. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى: {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]. قال أبو السعود: وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف. والتفضيل المعتبر فيهما: إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي: هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله: {أذلك خير. ..} الآية. ه. الإشارة: هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها، وهي الإيمان بالله، والإخلاص، والخضوع لمن يدل على الله، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم- الذي منعهم من شهوده تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً} أي: ولو صغروا في أنفسهم، وخضعوا خضوعاً كبيراً؛ لحصل لهم ما طلبوا، ولبُشروا بما أملوا، وفي ذلك يقول الشاعر: تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ *** إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ تذلَّلْ لَهُ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ *** فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه، حين قام يصلي بالليل: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً، فدخلت وقلت: هلموا إلى ربكم. أو كما قال. وفي قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ...} الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ: ردوه، واضربوا به وجهه؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط بل كان يشمت بمن وقع في بلاء أنا ملك الرحمة أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة فيقول الملك: ردوه؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد؛ من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسموات. وانتهى باختصار، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} قلت: (المُلْكُ): مبتدأ، و(الحق): صفته. و(للرحمن): خبر، و(يومئذٍ): ظرف للاستقرار. يقول الحق جل جلاله: {و} اذكر {يوم تشَقَّقُ} أي: تنفتح، فمن قرأ بالتخفيف: حذف إحدى التاءين، وأصله: تتشقق. ومن شد: أدغم التاء في الشين، أي: تنشق {السماءُ بالغمام} أي: عن الغمام، فتنزل ملائكة السموات في تلك الغمام؛ ليقع الفصل بين الخلائق، وهو المراد بقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملاَئِكَةُ} [البقرة: 65]. قيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. {ونُزِّلَ الملائكةُ تنزيلاً} عجيباً غير معهود. رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام، وفي أيديها صحائف أعمال العباد، فيفصل الله بين خلقه، ولذلك قال: {الملكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمن} أي: السلطنة القاهرة، والاستيلاء العام، الثابت؛ الذي لا زوال له أصلاً، هو للرحمن وحده؛ لأن كل ملْك يزول يومئذٍ، ولا يبقى إلا ملكه. وفائدة التقييد، مع أن الملك لله في الدنيا والآخرة؛ لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق؛ مجازاً، ويكون له تصرف صوري، بخلاف يوم القيامة، ينقطع فيه الدعاوي، ويظهر الملك لله الواحد القهار، {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} أي: وكان ذلك اليوم، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة، {عسيراً} أي: صعباً، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث: أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة، صلَّوْهَا في الدنيا. ففي حديث أبي سعد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة}، قلت: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة، يصليها في الدنيا». {و} اذكر أيضاً {يوم يَعَضُّ الظالمُ على يديه}؛ ندماً وتحسراً، فعض اليد والأنامل: كناية عن شدة الغيظ والحسرة؛ لأنها من روادفها، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه. والمراد بالظالم: إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفر وصنع طعاماً، فدعا إليه أشرف قومه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُرِّب الطعام، قال النبي صلى لله عليه وسلم: «ما أنا بآكل من طعام، حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله» فقال عقُبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم طَعَامه، وكان أُبي بن خلف غائباً فلما أُخبر، قال له: صَبأتَ يا عُقبة؟ فقال: لاَ، والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم، فَشَهِدْتُ لَهُ، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ، وتَطَأَ عُنقه، فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم سَاجِداً، فَفعَل ذَلِكَ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ألْقَاكَ خَارجاً من مَكَّةَ إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيفِ» فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ؛ صبراً. وأما أُبيُّ فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده، يوم أُحُد، في المبارزة، طعنه في عنقه، فمات بمكة. وعن الضحاك: لما بَصَقَ عقبة- بأمر أبي- في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، رجع بُصَاقُهُ في وجهه، وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل في وجهه حتى قتل، وقتله علي ببدر بأمره صلى الله عليه وسلم بقتله. ه. وقال الشعبي: كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام، أنْ تابعت محمداً، فارتدَّ؛ لرضا صاحبه، فنزلت الآية. ه. وإمَّا جنس الظالم، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً. {يقول يا ليتني}، الياء لمجرد التنبيه، من غير تعيين المنبّه، أو: المنبه محذوف، أي: يا هؤلاء {ليتني اتخذت} في الدنيا {مع الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {سبيلاً} أي: طريقاً مُنجياً من هذه الورطات، وهي طريق الإسلام، ولم أكن ضالاً، أو: طريقاً إلى الجنة، {يا وَيْلَتَي}، بقلب ياء المتكلم ألفاً، كما في صَحَارَى وعذارَى. وقرئ بالياء على الأصل، أي: يا هَلَكَتِي، تَعَاليّ؛ هذا أَوَانَكِ، {ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً}، فلان: كناية عن الإعلام، فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: لم أتخذ أبيّاً خليلاً، فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس، فهو كناية عن علم كل من يضله، كائناً من كان، من شياطين الإنس والجن. وقيل: هو كناية عن الشيطان. ثم قال: {لقد أضلني عن الذِّكْرِ}؛ عن ذكر الله، أو: القرآن، أو: الإيمان، أو موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو كلمة الشهادة. وتصديره بلام القسم؛ للمبالغة في بيان خطئه، وإظهار ندمه وحسرته، أي: والله لقد أضلني عن الذكر {بعد إِذا جاءني} من الله، وتمكنت منه. {وكان الشيطانُ للإِنسان خذولاً} أي: مبالغاً في الخذلان، حيث يواليه من يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه، وهو الحامل له على مخاللة المضِل ومخالفة الرسل. وقيل: المراد به خليله أُبيّ، وسماه شيطاناً؛ لأنه أضله كما يضله الشيطان. والله تعالى أعلم. الإشارة: في الآية تحريض على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وشد اليد علىلتمسك بسنته، والاهتداء بهديه، واتباع ما جاء به، قبل أن تقول: يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً. وفيها أيضاً: الترغيب في صحبة الأبرار، والترهيب من صحبة الفجار، وأنشد بعض الحكماء: تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ *** فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ *** تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا *** إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ وقال آخر: اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ *** خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها *** فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصَّالح مَثَلُ العَطَّارِ، إنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْره يَعْلق بك مِنْ رِيحِه. ومَثَل الجَلِيس السُّوء مَثَلُ الكِيِر، إن لم يَحْرِق ثِيابَكَ يَعْلق بك مِن رِيحِه» وقال في الحِكَم: «لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ». فإنهاض الحال هو ذكر الله عند رؤيته، والانحياش إليه بالقلب عند صحبته. ودلالة المقال على الله هو زجه في الحضرة بلا تعب، بان يرفع بينه وبين ربه الحُجُبَ، ويقول له: ها أنت وربك. وهذه حال الصوفية العارفين بالله، وقد وصفهم بعض العلماء، فقال: الصوفي من لا يعرف في الدارين أحداً غير الله، ولا يشهد مع الله سوى الله، قد سخر له كل شيء، ولم يُسخر هو لشيء، يسلط على كل شيء، ولم يسلط عليه شيء، يأخذ النصيب من كل شيء، ولم يأخذ النصيب منه شيء، يصفو به كدر كُلِّ شيء، ولا يكدر صَفْوَه شيء، قد أشغله واحد على كل شيء، وكفاه واحد من كل شيء. ه. قال في التنبيه: وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد مالا يحصل له بغيرها؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. ه. وفي شانهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه: فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ؛ فإِنهُمْ *** لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ، والكَنْزُ للرَّجَا *** وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى *** بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شَاسِعُ هُمُ القَصْدُ، والمطْلُوبُ، والسُؤْلُ، والمُنَى *** واسْمُهُمُ للصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ هُمُ النَّاسُ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ *** فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ وقال الجنيد رضي الله عنه: إذا أراد الله بالمريد خيراً ألقاه إلى الصوفية، ومنعه صحبة القراء. وقال سهل رضي الله عنه: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. ه. وقال حمدون القصار رضي الله عنه: (اصحب الصوفية؛ فإن للقبح عندهم وجوهاً من المعاذير، وليس للحُسْنِ عندهم كبير موقع يعظمونك به)؛ إشارة إلى أن العجب بالعمل منفي في صحبتهم. وقال سيدنا علي رضي الله عنه: شر الأصدقاء: من أحوجك إلى المداراة، وألجأك إلى الاعتذار. وقال أيضاً: شر الأصدقاء من تُكُلِّف له. ه. وليوسف بن الحسين الداراني رضي الله عنه: أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي *** فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي يوافقني في كل أمر أحبه *** ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه *** فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ والحاصل من هذا؛ أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها كمال الانتفاع للصاحب، دون من عداهم من المنسوبين إلى الدين والعلم؛ لأنهم خُصوا من حقائق التوحيد والمعرفة بخصائص، لم يساهمهم فيها أحد سواهم. وسريان ذلك من الصاحب إلى المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب، فقد قيل: مَنْ تَحَقَّقَ بِحَالَةٍ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُوهُ مِنْهَا. انتهى من التنبيه. وبالله التوفيق.
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} قلت: (وقال الرسول): عطف على: (وقال الذين لا يرجون..)، وما بينهما: اعتراض؛ لبيان قبح ما قالوا، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب. يقول الحق جل جلاله: {وقال الرسولُ}؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده بعنوان الرسالة؛ للرد في نحورهم، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: قال، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان، شاكياً إلى ربه- عز وجل:- {يا ربِّ إِن قومي}، يعني: قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع، {اتخذوا هذا القرآنَ}، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب، {مهجوراً} أي: متروكاً بالكلية، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، وهو من الهجران، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّم القُرْآن؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ، يَقُولُ: يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ». وقيل: هو من هجر؛ إذا هذى، أي: قالوا فيه أقاويل باطلة، كالسحر، ونحوه، أو: بأن هجروا فيه إذا سمعوه، كقولهم: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]؛ أي: مهجوراً فيه. وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى، فإن الأنبياء- عليهم السلام- إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب، ولم يُنظروا. ثم أقبل عليه؛ مسلياً، وواعداً لنصره عليهم، فقال: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين}؛ فتسلّ بهم، واقْتَدِ بمن قبلك من الأنبياء، فَمِنْ هنا سَاروا. أي: كما جعلنا لك أعداء من المشركين، يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل، جعلنا لكل نبي من الأنبياء، الذين هم أصحاب الشرائع والدعوة إليها، عدواً من مجرمي قومِهم، فاصبر كما صبروا؛ فإن الله ناصرك كما نصرهم. {وكفى بربك هادياً ونصيراً}، وهو وعد كريم بالهداية له إلى مطالبه، والنصر على أعدائه، أي: كفاك مالِكُ أمرِك ومُبَلغك إلى غاية الكمال، هادياً إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات، التي من جملتها: تبليغ الكتاب، وإجراء أحكامه إلي يوم القيامة. أو: وكفى بربك هادياً لك إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصراً لك عليهم. والعدو: يجوز أن يكون واحداً وجمعاً، والباء زائدة، و{هادياً ونصيراً}: تمييزان. والله تعالى أعلم. الإشارة: من السنة التي أجراها الله تعالى في خواصه: أن يكون جيرانهم وأقاربهم أزهد الناس فيهم، وأقواهم عليهم، وأعدى الناس إليهم. وفي الأثر: «أزْهَدُ النَّاس في العَالِم جِيرانُهُ» فلا ينتفع بالولي، في الغالب، إلا أبعدُ الناس منه، وقلَّ أن تجد ولياً عُمِّرَ سُوقُهُ في بلده، فالهجرة سنة ماضية، ولن تسجد لسنة الله تبديلاً. وكما جعل لكل نبي عدواً جعل لكل ولي عدواً، فلا بد للولي أن يبقى له من يحركه إلى ربه بالإذاية والتحريش، إما من جيرانه، أو من نسائه وأولاده؛ ليكون سيره بين جلاله وجماله، وكفى بربك هادياً ونصيراً.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)} يقول الحق جل جلاله: {وقال الذين كفروا} يعني: قريشاً، وهم القائلون: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21]، والتعبير عنهم بعنوان الكفر؛ لذمهم، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم، قالوا: {لولا نُزِّل عليه القرآنُ}، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ، وإلا كان متدافعاً؛ لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة، أي: هلاَّ أنزل القرآن، حال كونه {جملةً واحدةً} أي: دفعة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل مفرقاً في سنين؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها، ودليل كونها من عند الله، إعجازُها، وأما القرآن الكريم، فبينة صحته، ودليل كونه من عند الله، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً، على أن له فوائد أخرى، قد أشير إلى بعض منها بقوله: {كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك}؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى؛ لرد مقالتهم الباطلة، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود. أي: أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين؛ لنثبت به فؤادك، ونقوي به يقينك، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب، وازداد اليقين، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري: لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل- عليه السلام- بالرسالة في كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجبَ؛ لسكون قلبه، وكمال رَوْحه، ودوام أُنْسه، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً. ه. وقال القرطبي بعد كلام: أيضاً: لو أنزل جملة، بما فيه من الفرائض؛ لثقل عليهم، وأيضاً: في تفريقه تنبيه لهم، مرة بعد مرة، وهو أنفع لهم، وأيضاً فيه ناسخ ومنسوخ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه، وهو لا يصح. ه. وقال النسفي: لنقوي، بتفريقه، فؤادك؛ حتى تعيه وتحفظه؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. أو: لنُثبت به فؤادك عن الضجر؛ وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب. ه. {ورتلناه ترتيلا} أي: كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً، أي: قدرناه آية بعد آية ووقفة عقب وقفة، وأمرنا بترتيل قراءته، بقولنا: {وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] أو: فصلناه تفصيلاً، أو: بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبيت. {ولا يأتونك بمَثَلٍ}؛ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة، واقتراحاتهم الفاسدة الخارجة عن دائرة العقول، الجارية لذلك مجرى الأمثال، {إلا جئناك بالحقِّ}؛ إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، الذي ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال، كما مر من الأجوبة الحقية، القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة، الدامغة لها بالكلية. وجئناك بأحسن {تفسيراً} أي: بيانأ وتفصيلاً، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته، لا أن ما يأتون به حَسَنٌ، وهذا أحسن منه، وإنما المعنى: لا يسألونك عن شيء غريب إلا جئناك بما يبطله وما يكشف معناه، ويفسره غاية التفسير. ثم ذكر مآل الكفرة المقترحين لهذه الشُّبَهِ، فقال: {الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم} أي: يُحشرون كائنين على وجوههم، يُسبحون عليها، ويجرون إلى جهنم. وقيل: مقلوبين؛ وجوههم إلى قفاهم، وأرجلُهم فوق، {أؤلئك شرٌّ مكاناً} أي: مكانة ومنزلة، أو: مسكناً ومنزلاً، {وأضلُّ سبيلا}؛ وأخطأ طريقاً. ونزلت الآية لَمَّا قالوا: إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً. وقيل: المعنى: إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال، ومكانه حقير، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً، وأضل سبيلاً. والله تعالى أعلم. الإشارة: تثبيت القلوب على الإيمان، وتربية اليقين، يكون بصحبة الأبرار ورؤية العارفين الكبار، والترقي في معاريج التوحيد، إلى أن يفضي إلى مقام العيان، يكون بعقد الصحبة مع أهل التربية، وخدمتهم وتعظيمهم، حتى يوصلوه إلى ربه. ومن شأنهم أن الله يدافع عنهم، ويجيب من سألهم تشغيباً، فيلهمهم الجواب، فضلاً منه، فلا يُسألون عن شيء إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، ثم هدد من صغَّرهم وحقَّر شأنهم بقوله: {الذين يُحشرون...} الآية. والله تعالى أعلم.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)} يقول الحق جل جلاله: {ولقد آتينا موسى الكتاب}؛ أُنزل عليه جملة، ومع ذلك كفروا وكذبوا به، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} [القصص: 48]، فكذلك هؤلاء، لو نزل جملة، كما اقترحوا، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك. {وجعلنا معه أخاه هارونَ وزيراً}، فأخاه: مفعول أول لجعل، و(وزيراً): مفعول ثان، أي: جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً. والوزير: من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه، من الوزَر، وهو الملجأ. والوزارة لا تنافي النبوة؛ فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً. أو: يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً. {فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياتنا} أي: فرعون وقومه. والمراد بالآيات: التسع الظاهرة على يد موسى عليه السلام، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة؛ لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها، بل إنما وُصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بياناً لعلة استحقاقهم، لما حكي بعده من التدمير. أي: فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها، فكذبوهما تكذيباً مستمراً، {فدمَّرناهم} إثر ذلك {تدميراً} عجيباً هائلاً، لا يقادر قدره، ولا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة؛ اكتفاء بما هو المقصود. انظر أبا السعود. الإشارة: أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمُعين. قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} [المائدة: 2]، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله. فإن وُجد وَليّ لا إخوان له، ولا أولاد، فلا يكون إلا غالباً عليه القبض، مائلاً لجهة الجذب، فيقل الانتفاع به، ولا تحصل التوسعة للوَلي إلا بكثرة الأصحاب والإخوان، يعالجهم ويصبر على جفاهم، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته. وبالله التوفيق.
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)} قلت: (وقوم): منصوب بمضمر يدل عليه (دمرناهم)، أي: ودمرنا قوم نوح، و(عاداً وثموداً): عطف على (قوم نوح). يقول الحق جل جلاله: {و} دمرنا أيضاً {قومَ نوحٍ}، وذلك أنهم {لمَّا كذَّبوا الرسلَ}؛ نوحاً، ومن قبله شَيْثاً وإدريس، أو: لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع؛ لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام، {أغرقناهم} بالطوفان، {وجعلناهم} أي: وجعلنا إغراقهم أو قصتهم {للناس آية}: عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها. {وأَعْتَدنا}؛ هيأنا {للظالمين} أي: لهم. وأظهر في موضع الإضمار؛ للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم، أو لكل ظالم ظلم شرك، فيدخل كل من شاركهم، كقريش وغيرهم، أي: هيأنا {عذاباً أليماً}، أي: النار المؤبدة عليهم. {و} دمرنا أيضاً {عاداً وثموداً}، وقد تقدم في الأعراف، وهو كيفية تدميرهم. {وأصحابَ الرَّسّ}، هم قوم شعيب؛ قال ابن عباس: أصحاب الرسّ: أصحاب البئر. قال وهب: كانوا أهل بئر، قعوداً عليها، وأصحابَ مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيباً، فآذوه، وتمادوا في طغيانهم فبينما هم حول البئر- والبئر في وسط منازلهم- انهارت بهم وبديارهم، فهلكوا جميعاً. وقال قتادة: الرسُّ: قرية بفَلْح اليمامة، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله. وقيل: هم بقية قوم هود وقوم صالح، وهو أصحاب البئر، التي قال: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45]. وقال سعيد بن جبير وغيره: قوم كان لهم نبي، يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل، يقال له: فتخ، مَصْعَدُه في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه، وهي كأعظم ما يكون من الطير، وفيها من كل لون- وسموها العنقاء؛ لطول عنقها- وكانت تنقض على الطير فتأكلها، فجاعت ذات يوم، فانقضت على صبي فذهبت به،- وسميت عنقاء مغرب؛ لأنها تُغّرِّبُ ما تأكله عن أهله فتأكله- ثم انقضت على جارية قد ترعرعت، فأخذتها فطارت بها، فشكوا إلى نبيهم، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة، فاحترقت، فلم يُر لها أثر، فصارت مثلاً عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكم الله. وقال مقاتل والسدي: هم أصحاب بئر إنطاكية، وتسمى الرس، قتلوا فيها حبيباً النجار، فنُسبوا إليها، وهم الذين ذُكروا في (يس). وقيل هم أصحاب الأخدود الذين حفروه، والرسُّ في كلام العرب: كل محفور؛ مثل البئر، والقبر، والمعدن، وغير ذلك، وجمعها: رساس. وقال عكرمة: هم قوم رسّوا نبيهم في بئر. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود، وذلك أن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره، ويبيعه، ويأتيه بطعامه، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ. فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذا نام فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده. وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ، ومات ذلك النبي، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة»، يعني من قومه. ه. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها، إلا أن يكون أحدثوا شيئاً بعد نبيهم، فدمرهم الله. وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أن أصحاب الرسّ: السحّاقات، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ، والنساءُ بالنساءِ»، وذلك السحاق، ويقال له أيضاً: المساحقة، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره: أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط، حتى استغنوا عن النساء، فبقيت النساء معطلة، فجاءتهن شيطانة في صورة إمرأة، وهي الوَلِهات بنت إبليس، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل، وخسفاً من آخر الليل، وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم بقية. ه. {وقُُروناً} أي: دمرنا أهل قرون. والقرن سبعون سنة، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، {بين ذلك} أي: بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف، {كثيراً}، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير، {وكلاً} من الأمم المذكورين قد {ضربنا له الأمثالَ} أي: بيَّنا له القصص العجيبة، الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي، بواسطة الرسل. وقيل: المراد: تبيين ما وقع لهم ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائِهِمْ من عذاب الله وتدميرهم إياهم ليكون عبرة لمن بعدهم، {وكلاً} أي: وكل واحد منهم {تَبَّرنا تتبيراً} أي: أهلكنا إهلاكاً عجيباً. والتتبير: التفتيت. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته. ثم بيّن بعض آثار الأمم المُتَبَّرَةِ، فقال: {ولقد أَتَوْا} يعني: أهل مكة {على القرية}، وهي سدوم، وهي أعظم قرى قوم لوط، وكانت خمساً، أهلك الله أربعاً، وبقيت واحدة، كان أهلها لا يعملون الخبيث، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة، وإليه أشار بقوله: {التي أُمطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي: أمطر الله عليها الحجارة. والمعنى: والله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها الله، وبقي آثارها خاربة، {أَفَلَمْ يكونوا يرونها} في مرورهم ورجوعهم فيتفكرون ويؤمنون، {بل كانوا لا يرجون نُشُوراً} أي: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، لا يخافون ولا يأملون بعثاً، كما يأمله المؤمنون؛ لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، منهمكين في الغفلة، يرون ما نزل بالأمم أمر اتفاقياً، لا بقدرة الباقي، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار. والله تعالى أعلم. الإشارة: ينبغي للمؤمن العاقل، المشفق على نفسه، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة، ويتأمل في سبب هلاكهم، فيشد يده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان؛ فيشد يده على متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، ويرغب فيما رَغَّب فيه، ويهتدي بهديه، ويقتدي بسنته، ويربي إيمانه، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه، فهذه طريق النجاة. وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث: خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه؛ بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
|